حين قررت الكاتبة علا المدهون أن تكتب عن تجربتها الشخصية في غزة، خذلتها الكلمات. كيف تصف مدينة تجمع بين الحياة والموت، بين الوطن والمنفى؟ تقول إن قلبها نزف أكثر مما تحتمل اللغة، خصوصًا مع اقتراب الذكرى الثانية لهجمات 7 أكتوبر، التي أعادت المأساة وبدّلت ملامح كل شيء. غزة هي المدينة التي وُلدت فيها، وعاشت بين حروبها وانتفاضاتها، وغرست فيها جذور ذاكرتها. مثل تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هي مدينة المتناقضات: تضج بالحياة ثم تصمت، تُقاوم وتُنهك، وتظل في قلب أبنائها مدينة السلام رغم الحصار.

ينشر موقع داون هذا المقال الذي يصوّر غزة كمرآة للتاريخ الإنساني، مدينة تصوغها الصلابة والجمال في آن، وتُختصر فيها معاني الفقد والمقاومة. تقول المدهون إن غزة ليست فقط أرضًا للدمار، بل بيتٌ وذاكرة، وبحرٌ يحمل نسيم الصباح، وسوقٌ يعج بالحياة رغم الخوف. تتذكر جدتها التي عاشت في المجدل – عسقلان اليوم – قبل نكبة 1948، حين هجّرها العنف من بيتها قسرًا، لتصير لاجئة في غزة، تمامًا كما حدث بعد 7 أكتوبر حين اقتُلعت العائلات من بيوتها من جديد.

تربط الكاتبة بين مأساة جدتها ومأساتها الشخصية، فكلتاهما تُجسّدان التهجير المتكرر كقدر فلسطيني. تشير إلى أن نحو ثلثي سكان غزة – أي ما يقارب 1.6 مليون شخص – هم لاجئون يعيشون في حصار دائم. ومع ذلك، يواصلون الدراسة، والاحتفال، وكتابة الشعر، والبحث عن معنى للحياة وسط الركام. تقول إن غزة ما زالت حية، رغم أن العالم يصر على رؤيتها فقط كمشهد للموت.

تستعيد المدهون آخر زيارة لها في مايو 2023، قبل أن تفقد منزلها وأباها خلال الحرب الأخيرة، وتصاب أمها بالخرف حزناً. ترى في قصتها صورة مكثفة لتاريخ مدينة حُوصرت سبعين عامًا بين المنفى والذاكرة. فالنزوح الذي بدأ عام 1948 مع تهجير 750 ألف فلسطيني ما زال مستمرًا حتى اليوم، حيث يعيش أكثر من 5.9 ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لدى الأونروا، بينهم 1.5 مليون في مخيمات المنطقة.

تكتب المدهون: "غزة نفسها منفى. حمل اللاجئون إليها ما استطاعوا من متاع، لكنها احتضنتهم كبيت وسجن في آن واحد". تصف المدينة بأنها مكان يذكّر أهله دومًا بما فقدوه، وبأنهم حتى حين يكونون "في الوطن" يظلون بعيدين عن الوطن نفسه.

تصف الكاتبة اللحظة الفاصلة بين السادس والسابع من أكتوبر 2023، حين تبدّلت المدينة في يوم واحد. الأسواق التي امتلأت بالضحك تحوّلت إلى أنقاض، والبيوت إلى مقابر. تُقدّر أن الجيش الإسرائيلي قتل منذ ذلك التاريخ أكثر من 67 ألف فلسطيني وجرح أكثر من 168 ألفًا، بينهم آلاف قضوا أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات الغذائية، و455 شخصًا – بينهم 151 طفلًا – ماتوا جوعًا خلال الحرب.

ورغم المأساة، تصر المدهون على أن غزة ليست فقط ساحة حرب، بل مدينة ضاربة في التاريخ. فهي من أقدم مدن العالم، تضاهي أريحا في القِدم، وتحمل آثار الحضارات الكنعانية والفرعونية واليونانية والبيزنطية والإسلامية. كانت مأوىً لليهود والمسيحيين والمسلمين، وموطنًا لتنوّع ديني وثقافي عريق، حتى إن حي الزيتون كان يسكنه تجار يهود فلسطينيون قبل الاحتلال.

لكن القصف الأخير لم يستثنِ شيئًا، لا الأحياء القديمة ولا معالم التاريخ. تتحدث الكاتبة عن حي الشجاعية الذي أسّسه الأكراد، وعن كيف صار كل حي في غزة شاهدًا على التنوع والذاكرة الجماعية، قبل أن تلتهمه الحرب.

اقتصاديًا، تصف المدهون انهيارًا غير مسبوق: انكماش الناتج المحلي بنسبة تفوق 80%، وبطالة هي الأعلى في تاريخ القطاع، وانقطاع للكهرباء منذ أكتوبر 2023، واستهداف ممنهج للمستشفيات والمدارس والمياه. ومع ذلك، يواصل أهل غزة التعلم والإبداع. فوفقًا للبنك الدولي، تبلغ نسبة محو الأمية 98%، ويعتبر التعليم شكلًا من أشكال المقاومة، والفن وسيلة للبقاء.

تقول المدهون إن العالم لا يرى سوى السياسة والمفاوضات، بينما الحقيقة أن غزة هي الناس: العائلات، والضحكات وسط الخوف، والكرامة التي لا تموت. ومع أن المجاعة والحرمان ينهشان جسدها، إلا أنها تظل مدينة تصرّ على الحياة. يصرخ فيها الأطفال بالجملة نفسها التي كانت جدتها تقولها دائمًا: غزة بيتنا، وإن تهدّمت جدرانه.

تختتم الكاتبة مقالها بتساؤل مؤلم: "السؤال ليس هل ستنجو غزة – فقد نجت مرارًا – بل هل سيواصل العالم غضّ الطرف بينما تُمحى مدينة هي من أقدم مراكز الحضارة؟"
وتجيب من قلب الرماد: غزة لا تزال تتنفس، تقاوم، وتصرّ على أن تكون أكثر من منفى… إنها الوطن.

https://dawnmena.org/gaza-still-breathes-home-amid-war-exile-and-erasure/